الحادي والثلاثون من آيار من كل عام هو يوم مخصص لمكافحة التدخين، ويوم السادس والعشرين من حزيران هو اليوم العالمي لمكافحة المخدرات والإدمان عليها.
ففي هذين اليومين تتحرك المؤسسات والشخصيات الوطنية والتربوية، في جميع أنحاء العالم، لتتوجه إلى المدخنين والمدمنين بالنصح والإرشاد وتبيان المخاطر والأضرار، المباشرة وغير المباشرة، الناجمة عن هاتين الآفتين على مختلف الأعمار، والفئات، والطبقات الاجتماعية، والشرائح المجتمعية؛ ذكوراً وإناثاً.
لنترك أمر المخدرات والإدمان عليها، للمختصين الذين يتابعونه، ويَصِلون الليل بالنهار، في المتابعة الحثيثة، ابتداءً من مَنْبَتِها الأصلي وحتى تصل إلى شفاه المستخدمين أو عضلاتهم.
أما حول التدخين فإنني لم أُرِد الخوض في تفاصيله الدقيقة والجدل حوله بين المشرعين بحرمته والمدافعين عنه. ومن نافل القول أن نتحدث عن أضرار التدخين في مقالة كهذه لأننا لن نوفي الموضوع حقه. ولنترك الأمر للجراحين الذين رأوا، بأم أعينهم، رئة "مُدَخِّنٍ" وقد هُتِكَت جراء تدخين ما تيسر من مئات آلاف السجائر، ولسيدةٍ دخَّنت أثناءَ الحملِ لِتَضَعَ جَنيناً مشوهاً. كما نترك الأمر لزوجةِ وقد هددها زوجها بالطلاق، أكثر من مرة، إن هي اعترضت على ممارسته لعادة التدخين أو نَفَرَت من رائِحَتِهِ الكريهةِ.
أما الأطفال فلا يجوز أن نترك الأمر لهم بل علينا، كل من موقعه، أن نمسك بأيديهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فلمن نترك أمر طفلٍ يَسعُلُ ليل نهار ويعاني من داء الربو (الأزمة)، لا حول له ولا قوة، وقد ابتُلي بوالد يعشق السيجارة أكثر من فلذة كبده؟ ولمن نترك أمرَ طفلٍ مدخنٍ لا يعلم أن ممارستَه للتدخين تؤدي إلى شيخوخةٍ مُبكرةٍ لشرايينه، وأنه بهذه الممارسة "اللاواعية" يعرض جسمه لأكثر من 400 ضرر من النوع التدميري، القاتل، المسبب للعجز المبكر والموت المبكر، مع إيماننا المطلق بأن الأعمار بيد الله وحده جل شأنه.
وعليه، فإن موضوع المقال لن يتطرق لـِ "مدخنٍ" تجاوز سن الطفولة، بل أنني أود مناقشة ظاهرة "تدخين الأطفال في فلسطين". مع تأكيدنا على أن كل من يقل عمره عن (18) عاماً، سواء كان في المدرسة أو متسرباً منها أو كان ممن لم يتوجه إلى المدرسة في حياته قط، فهو طفل وفق تعريفات الطفولة.
وعندما راقبت وسائل الاعلام، وكيف تعاملت مع هذا الموضوع في 31/5/2008م، وجدتُ فيها ما يُلفِت النظر عندما زَفَّت لنا "بشرى!!"، بعنوان: "تراجع نسبة المدخنين بين طلاب فلسطين"، حيث أن "عدد المدخنين الفلسطينيين تراجع خلال ست سنوات بين أولئك الذين تزيد أعمارهم على 12 عاماً حوالى 10%".
لا شك بأن العنوان صحيح ويخدم الهدف الذي وَرَدَ من أجله وفق علم الصحافة، إلا أنني سأحاول إخراجه من سياقه الصحفي-الاحصائي إلى سياقه المجتمعي-الصحي.
فتفاصيل الخبر المذكور لا تحمل، من الناحية الوطنية، أي بشرى بل أنها تنبهنا إلى أنه، وفق بيانات الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني، بلغت نسبة التدخين حوالى 13% بين طلبة المرحلة الثانوية وحوالى 2% بين طلبة المرحلة الأساسية. وإذا أضفنا إليهم "المتسربون" من نفس أعمارهم المشردون في الشوارع، بلا رادع ولا مُرَبٍ، وإذا ما اعتبرنا نسبة الخطأ في استخراج النتائج فإننا قد نصل إلى نتيجة مفادها أن حوالى "طفل واحد" من بين كل خمسةٍ من أطفالنا، ممن هم بعمر يتجاوز الـ (10) سنوات، هو مدخن، بشكل كامل أو جزئي.
إن أمراً كهذا يدفعنا للابتعاد عن التفاؤل عندما تقل نسبة المدخنين بل الاندفاع، كل من موقعه وبجدية عالية، نحو طرح السبل الكفيلة بالاستمرار في التراجع حتى القضاء الكلي على "ظاهرة التدخين بين أطفال فلسطين".
فرب الأسرة عليه واجب منع "فلذة كبده" من الانحدار نحو هاوية التدخين الذي يُفقِد الأسرة استقرارها النفسي والاقتصادي، لأنها تصبح قلقة على ابنها المتجه نحو عذاب أبدي. إذ ليس في ذلك "استعجال للرجولة التي يعتقد بها بعض المراهقين"، بل هي الطريق الحقيقي نحو سلسلة كوارث يصعب السيطرة عليها في لحظة ما. والأسرة الواعية والطبيب والمُثَقِّف الصحي، فرادى ومجتمعين، معنيون بأن يمتنع الأطفال عن التدخين، لما لذلك من ضررٍ بالغٍ على صحةِ المراهق-الطفل ذو الجسم الطري، الغض، اليانع الحساس لكافة المؤثرات السلبية.
وكذلك التربوي (مدير المدرسة والمعلم) الذي يعاني من انعكاس عادة التدخين على السلوك اليومي للطالب الذي يتصف بعدم الانضباط، والميل الدائم لإثارة الفوضى والقلاقل داخل المؤسسة التربوية معني بالقضاء على هذه الظاهرة.
أما الاقتصادي المنتمي، لهذا الوطن المُحاصَر، فسوف يصاب بالصدمة والذهول حينما يعلم أن "إجمالي قيمة الواردات الفلسطينية من الدخان تقترب من (51) مليون دولار أمريكي في نهاية العام 2006م". والباحث الاجتماعي، الذي يَصِلُ الليل بالنهار ساعياً نحو توفير أدنى الأدنى ليسد رمق الأسر المعدمة، سوف يصاب بالإحباط عندما يجد أن حوالي 4% من مجموع الإنفاق الشهري الكلي للأسرة الفلسطينية يتطاير كمصروفات على التدخين.
والمزارع الفلسطيني، الواعي المنتمي لوطنه وشعبه وقضيته، الذي يعتبر "زراعة الدخان" مصدر رزقه، سوف يتجه نحو زراعة الخضروات والفواكه بدلاً من الدخان، عندما يتفهم بأنه يزرع ما يؤدي إلى انتشار ظاهرة تحرق صحة أطفالنا ومصروفات أسرهم، وتمس، بشكل مباشر، بأخلاقهم وسلوكياتهم.
وشركات تصنيع السجائر سوف تتعامل مع ما تكتبه على علب السجائر بجدية أعلى باعتبارها نصائح تؤدي إلى صياغةِ مجتمعٍ سليمٍ معافىً من آفةِ التدخين التي تَحرِفُ الجميع نحو الهاوية. وقد رصدتُ بعضاً من النصائح، والإرشادات، بل والأوامر مما يُكتَبُ على علب السجائر بتوقيع وزارة الصحة، أُجمِلُها فيما يلي: أثبتت الأبحاث الطبية أن التدخين يؤدي إلى 85% من حوادث الإصابة بمرض سرطان الرئة و75% من النوبات القلبية حتى سن الـ (45) عاماً تصيب المدخنين. كما يؤدي التدخين إلى الجلطة الدماغية والأمراض القلبية والموت المبكر. ويؤدي التدخين كذلك إلى الادمان، والعجز الجنسي، وهرم البشرة ويضر باللياقة البدنية.
أما حول علاقة التدخين بالأطفال فلم يُلاحظ أن هناك مخاطبةً مباشرةً لهم، وإنما توجه الارشادات للوالدين لتبيان أثر التدخين على أطفالهم، مثل: "دخان السجائر يضر بصحة أطفالك والذين يحيطون بك" و"الأطفال لوالديْنِ مُدَخِّنيْنِ، يعانون من الربو (الأزمة) أكثر من غيرهم".
يُلاحظ مما سبق أن أطفالنا بحاجة ماسة للنصائح، والإرشادات، والتعليمات التي تخاطبهم مباشرة والتي تنعكس على سلوكهم برفض التدخين ومحاربته. ولا يجوز أن يُكتفى بالإشارة إلى نتائج الدراسات التي تُجرى على تلك الشريحة تحت عنوان "ظاهرة التدخين بين طلبة المدارس" عندما تتم الإشارة إلى نسبة المدخنين بحسب الصفوف، والمراحل الدراسية، ونوع المدرسة، ومكان سكنه... الخ. لتخرج الدراسات بنتائج تفيد بأن الظاهرة منتشرة بين الطلبة، وأن في مقدمة الأسباب وراء انتشارها بين شريحة الأطفال: تقليد الأصدقاء، وحب التجربة، والمشاكل النفسية والعائلية. علماً بأن هناك أسباباً أخرى تستحق التوقف عندها بالدراسة، والتحليل، والتشريع، والمتابعة وفرض العقوبات على المخالفين. أما العوامل الوقائية التي تجعلنا نوفر "قنطار علاج" فهي كثيرة، منها:
أولاً: مضاعفة البرامج التوجيهية-الإرشادية: مع التركيز على نوعية البرامج التي تخاطب الأطفال مباشرة. ولعل أكثرها نجاعةً وفعالية تلك البرامج التي تقوم على مخاطبة الشباب للشباب. مع التركيز على دور الأسرة، والمسجد (خاصة في خطب الجمعة)، والكنيسة والمدرسة. ولعله من المفيد، هذه الأيام، ما يُثار من جدل بين الفقهاء حول تحريم الدخان، ليُسهِمَ في تَبيانِ المخاطرِ التي يِتركها التدخين على كافة شرائح المجتمع. كما أنه من الضروري جداً أن يتعرف المدخنون من الأطفال على تجربة مدخنٍ بالغٍ ترك التدخين، ليحدثهم عن الخطأ القاتل الذي ارتكبه منذ تعلقه بـ "السيجارة" في طفولته المبكرة حتى اهتدى إلى ترك التدخين. مع التأكيد على أنه من النادر أن تجد مدخناً لم يبدأ هذه التجربة القاتلة في سن الطفولة.
ثانياً: إبعاد الأطفال عن أجواء التدخين: ويأتي ذلك من خلال التشريعات التي تمنع التدخين في الأماكن العامة. ولعله من المفيد الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى في معاقبة من يدخن في الشارع والأماكن العامة، ففي سنغافورة يُعاقب المدخن بأن "يُضرب على قفاه"ويُغَرَّم بمبالغ ضخمة. وفي اليابان يُغَرَّم (المدخِّن في الشارع) بمبلغ 161 دولار يدفعها فوراً.
ثالثاً: منع المحلات التجارية من بيع السجائر للأطفال: واعتبار مثل هذه التصرفات ممارسة للمحرمات التي يعاقب عليها القانون. ولعله من المفيد أن نذكر بعضنا البعض بأنه في الولايات المتحدة يمنع عرض السجائر في أماكن بارزة في المحل التجاري، كما يُمنع بيعها لمن لا يُثبت أن عمره فوق الـ (18) عاماً. ومن يخالف ذلك يودَعُ في السجنِ وتوقع عليه العقوبات التي ينص عليها القانون. وفي اليابان، حيث السن القانونية للتدخين هي 20 عاماً، سيتم تصميم ماكينة بيع السجائر بحيث تقيس تجاعيد الوجه وارتخاء البشرة لتحديد ما إذا كان المشتري بلغ السن القانونية.
أما في فلسطيننا الغالية، ونظراً لأنه لم يتم، حتى اللحظة، سن القوانين الرادعة التي تحقق التوصيات (الوقائية) المذكورة أعلاه. ونظراً لأن ثقافتنا تخاطب عقل إنساننا وتحترم إرادته فترفض العقوبة الـ "سنغافورية" المذكورة أعلاه. ونظراً لأن أوضاعنا الاقتصادية لا تسمح بأن يدفع المخالف للقوانين مبالغ فوريةً.
نظراً لهذا كله مما ذُكِرَ، ولغيره مما لم يُذكر، وإلى جانب التوصيات المذكورة أعلاه فلنتفق، بالحد الأدنى، على أن نتوجه للمتاجرين بالسجائر، وأصحاب المقاهي (النرجيلة)، لنقول لهم: اتقوا الله في أطفالنا؛ فلا تشجعوهم على التدخين سواء بالدعاية أو بالبيع للطفل مباشرة.
ولنتفق، معاً، على مسمىً يمكن إطلاقه على من يقوم بـِ "فرط السجائر" ليعيد تعليبها لكي يبيعها على أكبر عدد من "أطفال حارته!!" بما يجني له أعلى "ربح!!" ممكن، أهو مجرمٌ، أم مصاص دماء، أم ماذا؟ ولنتفق كذلك على مسمى للتاجر الذي يبيع السجائر لطفل وهو يعلم أن هذا الطفل "يلتهم" جميع السموم التي تحتويها تلك السيجارة. أليس هذا وقوع في الشبهات التي توقع الأذى بالغير؟ أليس من الواجب على هذا التاجر التوجه لأسرة الطفل وإبلاغها بالأمر؟
إلى أن يُجاب على تلك الأسئلة/ التساؤلات وغيرها فإنني أقول بأن السلاح الوحيد الفعال، الذي نمتلكه، والقابل للاستخدام بنجاعة عالية هو "ضمير التاجر" الذي، إن قَصَدَ التخلي عن ذلك الربح "المسخ" الناجم عن بيع تلك السموم لأطفالنا، وأخذ دوره التوعوي في مجتمعه إلى جانب الآخرين، فإننا سنتمكن من تحقيق إنجازٍ وطني نتباهى به بين أمم الأرض.